العلم يشرف بشرف معلومه، والمعلوم في علم السيرة النبوية هو رسول اللهـ صلى الله عليه وسلم - ، ولابد لمن يريد معرفة سيرة النبيـ صلى الله عليه وسلمـ أن يستقيها من المصادر المعتمدة.
وأن يتبع المنهج الصحيح في دراستها، والذي ينبغي أن يكون منطلقا من عزة الإسلام، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من أحد ديناً غيره، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85).
وأن الإسلام لا يمكن أن تتم معرفته إلا بمعرفة ودارسة سيرة وحياة هذا النبي الكريمـ صلى الله عليه وسلمـ .
وقد كُتِبَت في السيرة النبوية كتابات كثيرة، ولكن تلك الكتابات لم تكن على نحوٍ واحد من جهة اختلاف مناهج أصحابها، وأهدافهم من كتابة السيرة، فمناهج الباحثين في السيرة النبوية كثيرة ومختلفة:
منهج المبالغين الغالين:
الذين يُضْفون على النبي - صلى الله عليه وسلم - صفات لا تليق إلا بالله - عز وجل - ، فهؤلاء يبالغون في إطرائه، ولا يبالون في صحة ما يروون أو ينقلون، ولا يعتمدون على المصادر الأصيلة والصحيحة من كتب السنة والسيرة.
رغم أن خصائصه ومعجزاتهـ صلى الله عليه وسلمـ التي ذكِرَت في القرآن الكريم، وجاءت في السنة الصحيحة والآثار المعتبرة من الكثرة والوفرة بحيث لا تحتاج إلى تلك الزيادات التي لا يشهد لها سند صحيح، ولا نقلٌ مُوثَّق، وقد قال النبيـ صلى الله عليه وسلمـ: (لا تُطْروني (تبالغوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده فقولوا عبد الله ورسوله) (البخاري) .
منهج الباحثين الغربيين:
وهذا المنهج يسلكه أغلب المستشرقين ومن شاكَلهم من الكُتَّاب والمفكرين المنتسبين للإسلام، فهؤلاء إذا تناولوا السيرة النبوية بالبحث والدراسة تعاملوا معها كما يتعاملون مع سيرة أي زعيم أو بطل أو قائد، فيتحدثون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يتحدثون عن هؤلاء، ويصفونه بالبطولة والعبقرية والزعامة أو نحو ذلك من الألقاب التي لا تُغْنِي عن مقام النبوة.
فيتحدثون عن سيرة النبيـ صلى الله عليه وسلمـ حديثاً مادياً، دون ربط لها بالوحي والغيب، والتأييد الإلهي، وكأنهم يتحدثون عن سيرة أحد الأبطال والزعماء المعروفين في هذا العصر. مع أنهم يثنون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويصفونه بأوصاف كبيرة، ويفضلونه على غيره، ولكن الخطورة تكتنف هذا المنهج من جهة قطعه عن الصلة بالله، وعن الإيمان بالغيب.
وبعضهم يحكمون العقل في النصوص، فيردون أحاديث ووقائع صحيحة تتعارض مع عقولهم وأفكارهم، وينكرون عدداً من المعجزات الثابتة بصريح القرآن ومتواتر السنة، كنزول الملائكة في بدر، والطير الأبابيل، وشق صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، والإسراء والمعراج.
فيصفون الإسراء والمعراج بسياحة الروح في عالم الرؤى، ويفسرون الملائكة الذين أمد الله بهم المسلمين في غزوة بدر بالدعم المعنوي، ووصف الطير الأبابيل بداء الجدري، وأن شق الصدر كان شيئاً معنوياً.
وأن لقاء جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء كان مناماً، إلى غير ذلك. وهكذا تُفَّرغ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحقائق الغيبية، والمعجزات التي لا تتنافى في جوهرها مع حقائق العلم وموازينه التي يدَّعون أنهم يسيرون على وفْقها، لأن الله هو خالق النواميس، وهو القادر على خرقها متى شاء بآيات ومعجزات على يد أنبيائه، كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} (الحديد: من الآية25) .
ثم إن العقل السليم لا يتعارض مع النقل الصحيح، فما صح عن رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ من أخبار يقبلها العقل ولا يردها، وإذا لم يحصل الاتفاق والتطابق بين العقل والنقل الصحيح على أمرٍ ما تعين اتهام العقل.
كما ثبت عن سهل بن حنيفـ رضي الله عنهـ أنه قال: " يا أيها الناس اتهموا رأيكم على دينكم "، وكما جاء عن عليـ رضي الله عنهـ أنه قال: " لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه " هذا من جهة ومن جهة أخرى العقول تتفاوت فقد يقبل هذا ما لا يقبله هذا.
منهج السلف ومن سار على هديهم:
وهو المنهج الصحيح والمطلوب السير عليه في دراسة سيرة النبيـ صلى الله عليه وسلمـ ، وهو الذي ينكر منهج الغلو والمبالغة في إطراء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كما ينكر الأسلوب المادي الفلسفي في دراسة السيرة النبوية.
فالمنهج الصحيح هو الذي يعتمد في دراسة السيرة واستلهام الدروس والعبر منها على القرآن الكريم، والمصادر الأصيلة الصحيحة من كُتُب السنة والسيرة، دون مبالغة في إطراء النبي - صلى الله عليه وسلم - وإخراجه عن وصف العبودية، ودون إغفال لمقام النبوة الذي يعلو به رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ على سائر البشر.
وهو المنهج الذي يقومـ أيضاً - على الإيمان بالغيبيات، والمعجزات الكثيرة للنبيـ صلى الله عليه وسلمـ التي أكرمه الله بها، فهو أكثر الرسل معجزة، وأبهرهم آية، فله من المعجزات ما لا يُحَدُّ ولا يُعَدُّ، وقد أُلِّفت في معجزاتهـ صلى الله عليه وسلمـ المؤلفات الكثيرة، وتناولها العلماء بالشرح والبيان، كما قال ابن القيمـ بعد أن ذكر معجزات موسى وعيسىـ عليهما السلامـ:
". . وإذا كان هذا شأن معجزات هذين الرسولين مع بُعْدِ العهد وتشتت شمل أمتيهما في الأرض وانقطاع معجزاتهما، فما الظن بنبوة مَنْ معجزاته وآياته تزيد على الألف والعهد بها قريب، وناقلوها أصدق الخلق وأبرهم.
ونقلها ثابت بالتواتر قرنا بعد قرن. . " بل إن سيرتهـ صلى الله عليه وسلمـ بأحداثها ومواقفهاـ ذاتهاـ معجزة من معجزاته، وآية من آيات نبوته كما قال ابن حزم: ". . فإن سيرة محمدـ صلى الله عليه وسلمـ لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول اللهـ صلى الله عليه وسلمـ حقاً، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى. . ".
فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلمـ مجرد عبقري سمت به عبقريته بين قومه، ولكنه قبل ذلك رسول أيّده الله بوحي من عنده، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم 3: 4) ، وقد أُوتِيَـ صلى الله عليه وسلمـ الحظ الأوفر والنصيب الأكبر من جمال الصُّورة، وتمام الخِلقة، وحُسن الخُلُق، والرِّفق في المعاملة، والعدل في الغضب والرِّضا.
لقد فرضت سيرة النبيـ صلى الله عليه وسلمـ نفسها على المسلمين بالعناية والاهتمام بها ودراستها، وذلك لأن سيرتـ ه - أقواله وأفعاله - هي المصدر الثاني للتشريع الإسلاميـ بعد القرآن الكريم. ومن ثم يتضح لنا أهمية دراسة السيرة النبوية في ظل منهج علمي صحيح، يسعى إلى بناء السلوك وفق هَدْي النبيـ صلى الله عليه وسلم وأخلاقه.
ويساعد على التقدم في مجال البناء الحضاري للأمة المسلمة التي تقتفي أثر نبيها محمد - صلى الله عليه وسلمـ ممتثلة قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب: 21) .
المصدر: موقع إسلام ويب